الثلاثاء، 27 يوليو 2010

حتى .لاتسقط الأقنعة

كثيرون هم الذين يمشون بيننا وهم يضعون أقنعة باهية يخفون خلفها نفوسا معتلّة بالية. إنهم يبهرونك بقدرتهم على التمثيل، وبمهارتهم في إخفاء وجوههم الحقيقية الصدئة التي تقبع تحت تلك الأقنعة باهرة الجمال.

الأقنعة العاطفية، والأقنعة النفسية، والأقنعة الاجتماعية، كل هذه الأقنعة تفتك بالمجتمعات وتؤثر في العلاقات الإنسانية أكثر من تلك الأقنعة المادية الملموسة التي يضعها لص أو مجرم ليرتكب جريمة ما. فمثل هذه الجرائم قد لا تتكرر لحظيا، ولا يوميا، ولا تؤثر في نفسيات أفراد المجتمع بالدرجة التي تؤثر بها تلك الأقنعة المعنوية «السلبية» التي يرتديها الكثيرون طوال اليوم، وتكاد تكون ملاصقة لوجوههم التي يظهرون بها أمام الناس خارج حدود المنزل.

كيف يمكن للمرء ألا يكون نفسه، وكيف يرضى أحدنا بأن يقدم نفسه للآخرين بشكل مختلف عن حقيقته وجوهر روحه؟ وهل من السهل على الناس أن يظهروا في كل موقف بشكل مختلف، وأن يتلونوا تلوّن الحرباء بحسب ما تقتضيه المواقف؟

وإذا كان هناك شخص يخجل من الظهور أمام الآخرين بشخصيته الحقيقية، التي قد تكون جشعة، أو قاسية، أو متسلطة، أو غير ذلك من الصفات السلبية، فلماذا يحرص على إخفائها عن الناس ويرضى بإبقائها في نفسه؟ ولماذا لا ينهض بمهمة تغيير الصفات السلبية أو تلك التي يخجل من إظهارها أمام الآخرين، ولا يسعى لتعديل سلوكه الذي يشعره بالخزي والخجل، بحيث يصبح السلوك المستعار من خلال القناع هو سلوكه الطبيعي دون العودة بعد انتهاء المواقف أمام الآخرين إلى سابق طبعه وعادته؟

لا شك في أن خجل هؤلاء من كشف حقيقتهم البعيدة عن جوهر البشرية هو الذي يدفعهم للتستر خلف الأقنعة. هذا هو السبب العام المشترك بين جميع المواقف التي يرتدي فيها شخص ما قناعا، مهما اختلفت التفاصيل من موقف لآخر. لذلك، يسعى كل واحد من هؤلاء سعيا شكليا لتجميل نفسه، غاضًّا طرفه عن قبحه الداخلي؛ فالمهم عنده هو أن يظهر أمام الآخرين بالشكل الذي يعجبهم ويرضيهم، دون قناعة منه بضرورة أن يكون كذلك قلبا وقالبا. لذلك يسعى سعيا حثيثا للوصول إلى هذه الغاية وينشغل بها كي يصل من خلالها لأهدافه، ولا يهتم إطلاقًا بتنقية ذاته وتشذيبها وتجميلها.

وتفاوت الناس في قدرتهم على كشف زيف الوجوه المحيطة بهم التي تخفي وراءها نفسيات مريضة لا يعني ـ دائما- تفاوتهم في الذكاء أو في الشطارة، بل يعني تفاوتهم في الطيبة التي أصبحت رديفة للسذاجة عند معظم الناس؛ فكثيرون منا لن يستطيعوا مهما تقدموا في العمر، ومهما التقوا بأشخاص وصُدموا بهم، أن يحملوا النظارة السوداء وينظروا للعالم من خلالها، لأنهم سيشعرون أنهم سيصبحون مثل أولئك أصحاب الأقنعة بعد حين.

إن هذه الفئة من الناس مريضة وغير سوية، ولابد من وجود أسباب تدفعها لأن تكون كذلك، ولا يبدو لي أنها تدرك ما تقوم به، أو ربما لا يدرك عدد كبير ممن يقوم بارتداء الأقنعة أنه يقوم بذلك بالفعل، وهذا يتطلب من الناس دوام النصح والتنبيه، بحسب درجات العلاقة التي تربطهم ببعضهم. أما البقية ممن يدركون ويعرفون.

بل ويخططون لأن يمارسوا هذا الفعل المشين في حق الآخرين، لأهداف وغايات محددة يضعونها نصب أعينهم، فإنهم مرضى لا أمل من شفائهم، لأنهم يعرفون حقيقة ما يفعلونه، ويقومون به مع سبق الإصرار والترصد، ويخدعون الآخرين عن علم ومعرفة واختيار لهذه الوسيلة دون غيرها للوصول إلى هدفهم، ربما لأنها الأسهل، وربما لأنها أكثر إمتاعا بالنسبة لهم!

ومثل هؤلاء البشر الذين هم أبعد ما يكونون عن صفات البشرية لا يجدون بأسا في ممارسة حياتهم بشكل طبيعي، تتخلله مواقف الخداع والزيف والضحك على الآخرين دون أدنى إحساس بتأنيب الضمير تجاههم، لأنهم استمرأوا أفعالهم المشينة، ويشعرون أنها جزء منهم. وفي المقابل لا يدرك الآخرون هذا الزيف إلا إن تهيأ لهم موقف قد يكون صادما وموجعا، لكنه مهم في التعرف إلى حقيقة من يتعاملون معه، ولا يوجد أفضل من المواقف كي تضع الناس على المحك لتختبر صدقهم من زيفهم، فهي التي تكشفهم، وهي التي تظهر معادنهم وما يختبئ خلف الأقنعة الزاهية من صدأ القلوب والنفوس.

تبدو الأقنعة ـ في نظري ـ أشبه بالسلم الذي يصعد به الإنسان نحو هدفه، فهو يدوس على إنسانيته، وأحيانا على قيمه ومبادئه، كما يدوس على درجات السلم كي يصعد ويصل لغايته.

والذي يرضى بأن يظهر بوجه غير وجهه لا يمكن أن يُؤْمَن على شيء أبدا، لأنه لم يصن نفسه ولم يحافظ عليها كما هي، ولم يحسن تقديمها للآخرين، وارتضى أن يقدم بديلا عنها وجها يمكن أن يُسَوِّقه لديهم، كي يصل إلى ما يريده منهم فقط، ثم يلقي بهذا البديل في أقرب سلة مهملات.

وإذا كان من الضروري علينا جميعا أن نتحصن ضد الصدمات النفسية الناتجة عن سقوط الأقنعة، كي لا يكون أثرها علينا كبيرا ومؤذياً جداً، وذلك بأن نهيئ أنفسنا دائماً إلى أن نكتشف ذات يوم ـ مثلا ـ أن هذا الصديق الذي رافَقَنَا عمراً طويلا لم يكن كما ظنناه.

وأنه كان يرتدي قناعه طوال الوقت، حتى لا ننهار حين يسقط القناع ذات يوم وينكشف ما تحته، إلا أن الأفضل هو أن يحافظ صاحب كل قناع على قناعه، وأن يحرص على عدم سقوطه، كي لا يتعب من حوله معه حين يكتشفون حقيقته؛ فإذا كان هو مريضا نفسيا فليس من اللازم أن يصبح جميع من حوله مرضى أيضا نتيجة صدمتهم به. لذلك أنصح جميع واضعي الأقنعة بتثبيتها جيدا، كي لا يَسْقطوا ويُسْقِطوا من حولهم بسقوطها، ويمكنهم الاستعانة بالمواد اللاصقة، وبأنواع الغراء بالغة الجودة، ليلصقوا أقنعتهم على وجوههم رأفة بمن حولهم، وليعيشوا هم زيفهم الداخلي كما يشاؤون، فلن يهتم بهم أحد إذا لم يهتموا هم بأنفسهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق